في مشهد سياسي لبناني مشحون بالتناقضات والهواجس الأمنية، تتقدّم خطوة تسليم السلاح الفلسطيني مرّة أخرى، هذه المرّة من بوّابة مخيم عين الحلوة، ومعه مخيم البداوي في الشمال، بوصفها تطورًا استثنائيًا يعكس مسارًا غير تقليدي بين الدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية، في سياق بلورة معالم المرحلة الجديدة ما بعد الحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان والمنطقة، ومن ضمن سياق “حصرية السلاح” الذي كرّسته الحكومة اللبنانية نظريًا.
لم يكن من السهل تصوّر صورة تُسلَّم فيها مضادات الطائرات وقاذفات الـ”آر بي جي” إلى الجيش في مشهد شبه احتفالي، بعد عقود من التوترات المزمنة بين المخيمات والدولة، ومن دون أي مواجهة تُذكر هذه المرّة. إلا أنّ هذا التحوّل الذي بدأ منذ أشهر، ولو بقي محدودًا، يدخل اليوم مرحلة أكثر حساسية مع “عين الحلوة”، المخيم الذي لطالما ارتبط اسمه في المخيلة اللبنانية بالعنف والتمرد والمسلحين الخارجين عن السيطرة والقانون.
لكنّ هذا المسار الذي بدأ منذ أشهر، بمراحل أولى في مخيمات مثل البراجنة، الرشيدية، البص، والبرج الشمالي، يواجه مجموعة من المعوقات، سواء من الناحية الأمنية أو الرمزية أو السياسية، خاصة فيما يتعلّق بالفصائل التي لا تزال تحتفظ برفض مبدئي لتسليم السلاح، مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما، فهل يمكن القول إنّ تسليم السلاح الفلسطيني سلك طريقه عمليًا، أم أنّ ما يحصل لا يعدو كونه خطوات شكلية استعراضية ليس إلا؟!
قرار وليس خيارًا
من منظور الدولة اللبنانية، يبدو أنّ القرار متّخَذ بأنّ ملف السلاح الفلسطيني يجب أن يُطوى، ولا سيما أن أيّ تقدّم لا يمكن أن يحصل على خط سحب سلاح “حزب الله”، قبل إنجاز الأمر، علمًا أنّ الدولة وجدت في هذا المسار مدخلًا لترميم ما بقي من صورتها كمرجعية شرعية واحدة تمتلك حق احتكار العنف المنظّم، فضلاً عن فرصة لإقناع المجتمع الدولي بأنها ماضية في حصر السلاح، بإجراءات فعلية، وليس فقط بقرارات حكومية.
ولعلّ ما يجعل هذا المسار اليوم مختلفًا عن محاولات سابقة فاشلة هو ما يبدو أنه نضوج داخلي فلسطيني حيال استحالة استمرار نموذج المخيمات كـ”مناطق عسكرية مغلقة”، تُمثّل خطرًا على السلم الأهلي وعلى اللاجئين أنفسهم. وقد دفعت هذه المقاربة الجديدة، بعدد من القيادات الفلسطينية إلى إعادة النظر في معادلة السلاح داخل المخيم، خصوصًا أن هذا السلاح لم يعد يُستخدم في وجه الاحتلال، بل بات يُستنزف في معارك داخلية على النفوذ والمواقع والتمثيل.
غير أن هذه المعادلة لم تُحسم بعد، إذ ما زال تسليم السلاح محصورًا بالفصائل المحسوبة على منظمة التحرير، في حين تُبقي حماس والجهاد الإسلامي ومجموعات أخرى على ترسانتها بذرائع متعددة، تتراوح بين الحاجة للدفاع الذاتي، والخوف من الفراغ الأمني، والشكّ بالنوايا، ما يعني أن ما جرى حتى الآن هو مرحلة أولى من مسار طويل، يتوقف نجاحه على مجموعة عوامل متشابكة، تبدأ بالثقة السياسية بين الطرفين، ولا تنتهي بضمانات واقعية للفلسطينيين.
مخاوف “مشروعة”؟
بالتوازي مع ذلك، يبدو أنّ المخاوف الفلسطينية من أن يتحول نزع السلاح إلى مدخل لتجريد المخيمات من هويتها السياسية، أو لتفكيك البنية التنظيمية للفصائل، ما زالت حاضرة، خصوصًا في ظل غياب رؤية لبنانية موحدة حيال مستقبل الوجود الفلسطيني. ففي الوقت الذي تبادر فيه الدولة إلى سحب السلاح، لا تبدو هناك أي خطة واضحة لتحسين ظروف الحياة داخل المخيمات، أو لمعالجة ملف المطلوبين، أو حتى لضمان الأمن الذاتي بعد تسليم السلاح.
ولعلّ هذا بالتحديد هو ما يثير تساؤل الكثير من الفلسطينيين حول ما إذا كان ما يجري هو بداية تسوية حقيقية، أم مجرّد خطوة أمنية ظرفية تندرج في إطار ترتيب أوراق الداخل اللبناني، وإعادة تموضع السلطة اللبنانية في ظل الاستحقاقات المقبلة. ولعلّ الجانب الأكثر حساسية في هذا المشهد هو الرمزية التي يحملها السلاح الفلسطيني في لبنان، ليس فقط من منظور المقاومة، بل بوفه تعبيرًا عن هوية سياسية ووجود متوتر في بلد لا يمنح الفلسطينيين الحد الأدنى من الحقوق، ولا يزال يحتفظ بمقاربة أمنية صرف تجاه المخيمات.
من هنا، يرى الكثير من الفلسطينيين في لبنان وخارجه إن أي محاولة لتجريد الفصائل من السلاح من دون ضمانات مقابلة، لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع الذي تعيشه القضية الفلسطينية نفسها، والتي تشهد تراجعًا في زخمها الإقليمي والدولي، على وقع الحرب الإسرائيلية على غزة، والاعتداءات المستمرة على الضفة وغيرها، وهو ما يدفع بعض القوى الفلسطينية إلى التمسك بما تبقى لها من أوراق ضغط، ولو كانت مكلفة أو رمزية.
في النتيجة، يمكن القول إنّ ما جرى في عين الحلوة ليس تفصيلًا عابرًا، بل خطوة نوعية قد تشكل اختبارًا أوليًا لمسار طويل من التفاوض الضمني بين الدولة اللبنانية والوجود الفلسطيني، يهدف إلى الانتقال من منطق التعايش القلق إلى شراكة مضبوطة بضوابط أمنية وسياسية، مع الحفاظ على خصوصية المخيمات ودورها في الحفاظ على الذاكرة الوطنية الفلسطينية. فهل يكون ما جرى نقطة انطلاق نحو تسوية تبنى على أساس الاعتراف المتبادل بالهواجس والمصالح والحقوق؟
اترك ردك