تصعيد إسرائيل بالنار.. رسائل مبطنة إلى بري والدولة!

منذ اللحظة الأولى لضرب المعدّات الثقيلة في المصيلح، بدا أن تل أبيب اختارت هدفها بعناية، فالموقع ليس عاديًا في رمزيته، ولا الاستهداف في توقيته، ما ولّد انطباعًا بأنّ المقصود لم يكن بنية تحتية لـ”حزب الله” كما يزعم الجيش الإسرائيلي في كلّ مرة، بل توجيه ما يمكن وصفها بـ”رسالة بالنار” إلى الداخل اللبناني، وتحديدًا إلى عين التينة، التي تمثل بامتياز مركز الثقل السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه برّي.

 
ومع أنّ بري أكّد أنّ العدوان على المصيلح يستهدف كلّ لبنان وجميع اللبنانيين، شأنه شأن الخروقات الإسرائيلية اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، فإنّ رمزيّة هذا الاستهداف كانت واضحة لكثيرين، ولا سيما أنّ هذه المنطقة لطالما اقترن اسمها باسم بري، وهو ما قرأ فيه كثيرون محاولة من إسرائيل للقول إن يدها قادرة على الوصول إلى عمق المعادلة السياسية اللبنانية، في لحظة إقليمية ودولية تتداخل فيها ملفات ما بعد غزة مع حسابات الجنوب اللبناني.
 
لم يتأخّر بري في تلقّف الرسالة، فقال في تصريحات صحافية إنّ “الرسالة وصلت”، لكنّه أضاف ما هو أهمّ حين تساءل عن “صدقيّة الراعي الأميركي”، في إشارة إلى دور واشنطن في رعاية اتفاق وقف النار والوساطة التي تقوم بها، وهو ما نقل النقاش من الميدان إلى السياسة، فهل يكون الهجوم الإسرائيلي اختبارًا مباشرًا لجدية الولايات المتحدة في ضبط إيقاع المواجهة جنوبًا، وهل صحيح أنّ تل أبيب تضرب بذلك مشروع السلام الأميركي؟!
 
إعادة الإعمار.. ممنوعة؟
 
بالنسبة إلى العارفين، فإنّ أهداف الهجوم على المصيلح مزدوجة، فإذا كان كثيرون قرأوا فيه رسالة ضمنية إلى بري، فإنّ الكلّ يُجمِع على عدم جواز فصله عن المسار الذي تحاول إسرائيل فرضه منذ أسابيع، وهو منع أي عودة فعلية إلى القرى الحدودية وعرقلة عمليات رفع الركام وتأهيل البنى التحتية. ويشير هؤلاء إلى أنّ الضربات التي طالت الآليات المدنية شكّلت في حدّ ذاتها إعلانًا بأن إعادة الإعمار في الجنوب ممنوعة، أو على الأقل لن تمرّ بلا شروط.
 
بهذا المعنى، ثمّة من يرى أنّ منع إعادة الإعمار يوظّف من جانب إسرائيل كوسيلة ضغط سياسي، ولعلّ الرسالة في هذا السياق موجّهة إلى الدولة اللبنانية برمّتها، وإلى المجتمع الدولي أيضًا، الذي يدعو لمساعدة لبنان في هذه الورشة، فتل أبيب تريد أن يبقى الجنوب منطقة متوترة، معلّقة بين وقف إطلاق نار هشّ ومفاوضات مؤجلة، حيث يجري الحديث عن ربط التمويل والإعمار بمسألة سلاح حزب الله وبتوسيع صلاحيات الجيش جنوب الليطاني.
 
ولا يرى كثيرون أنّ استهداف الآليات الثقيلة في المصيلح تحديدًا، وهي دارة الرئيس نبيه بري، جاء صدفة بعد ساعات فقط على كلام واضح ومباشر له في سياق سجال علنيّ مع رئيس الحكومة نواف سلام، تضمّن عتبًا صريحًا على الحكومة، التي تغيّب ملف إعادة الإعمار عن أجندتها، وهو ما ترك انطباعًا بأنّ الاستهداف قد يكون في رمزيّته ردًا “ضمنيًا” على بري، ومحاولة للدخول على خطّ السجال الداخليّ، وربما لفرض جدول الأعمال.
 
ماذا عن الموقف الأميركي؟
 
في غضون ذلك، بدا الموقف الأميركي تحت المجهر اللبناني. فحين يسأل برّي عن صدقية الراعي الأميركي لاتفاق وقف إطلاق النار، فهو يقول بصورة أو بآخر إنّ على واشنطن حسم خيارها: إمّا ممارسة الضغط على تل أبيب لكبح التصعيد، وإمّا الظهور كطرفٍ متواطئ في تعطيل التهدئة، خصوصًا أنّ التصعيد الإسرائيلي المتواصل يرفع منسوب القلق الدولي من انزلاق الجبهة الجنوبية إلى مواجهة مفتوحة من جديد.
 
ولعلّ هذه الرسالة إلى واشنطن تتعزّز أيضًا في التوقيت، فالتصعيد الإسرائيلي يأتي اليوم في وقت يحتفل الأميركيون بما يعتبرونه إنجازهم في الشرق الأوسط، عبر الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه أخيرًا في غزة، بعد عامين من الإبادة، وإن لم يقترن حتى الآن بضمانات تتيح التأكيد أنه سيكون دائمًا، وهو ما يجعل البعض يشكّك بقدرة مخطط الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في المنطقة على الصمود، في ضوء السلوك الإسرائيلي غير المفهوم.
 
وفي الداخل، يتقاطع هذا التحدي مع نقاشٍ واسع حول دور الحكومة في التعامل مع المرحلة المقبلة، حيث أعادت الضربة على المصيلح خلط الأوراق بين القوى السياسية، خصوصًا أن الحكومة تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين إرضاء المجتمع الدولي، في مطالبه حول ضرورة نزع سلاح “حزب الله”، وبين التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقف، ومطالبة المجتمع الدولي نفسه الذي يضغط على لبنان، بممارسة دوره حيث يجب.
 
الرسالة الإسرائيلية من المصيلح واضحة: “لا إعمار بلا شروط”، لكن الردّ اللبناني الذي يقوده برّي يذهب في الاتجاه المعاكس تمامًا. فالمطلوب تثبيت مبدأ الإعمار كحقّ سيادي غير قابل للمساومة. وفي انتظار تفاعل واشنطن مع تساؤل برّي حول “صدقيّة الراعي الأميركي”، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للدولة اللبنانية أن تحمي قرارها السيادي في إعادة الإعمار من دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع شروط الخارج وضغوط الداخل؟