ففي كل مرة تحاول واشنطن رسم مسار جديد، تجد نفسها مضطرة للتراجع أو التعديل تحت ضغط التطورات الميدانية والسياسية، ما يكشف أن أدواتها التقليدية لم تعد تحقق النتائج التي اعتادت عليها.
هذا الارتباك لا ينفي أن الولايات المتحدة تبدو في عجلة من أمرها للاستفادة من الزخم والانجاز العسكري الذي تراكم خلال الفترة الماضية، خصوصًا في بعض الجبهات التي شهدت عمليات أو مواجهات و أعطت انطباعًا أوليًا بتحقيق إنجازات.
لكن واشنطن تدرك في العمق أن أي مكاسب عسكرية لم تترجم بعد إلى حسم نهائي، لا في إيران ولا في اليمن ولا في لبنان ولا في غزة، وهو ما يجعلها تميل إلى استخدام الضغط السياسي والإعلامي كبديل لتحقيق انتصار سياسي كامل، وفي محاولة لفرض شروط على طاولة المفاوضات قبل أن تتبدد الفرص.
في لبنان، يظهر التناقض الأميركي بشكل أوضح، فالضغط الجاري يُمارس في لحظة تعتبر فيها السلطة الحاكمة أقرب سياسيًا إلى الخط الأميركي أو على الأقل غير معادية له. ورغم ذلك، تستمر واشنطن في التلويح بخيار الحرب والتصعيد الأمني، وهو ما قد يؤدي إلى نتيجة عكسية تمامًا، إذ يمكن أن يقوّض المكاسب السياسية التي حققوها خلال الفترة الماضية، ويفتح الباب أمام خصومهم لاستغلال مشاعر الرفض الشعبي لأي مواجهة عسكرية جديدة.
هذه الإشكالية تضع الأميركيين أمام معادلة صعبة: كيف يضغطون بقوة على بلد، في وقتٍ يريدون فيه الحفاظ على توازن هش مع السلطة القائمة؟
أما في سوريا، فالمشهد لا يقل تعقيدًا. فالتسريبات المتزايدة تشير إلى أن الإدارة الأميركية تعيد تقييم موقفها من النظام الجديد، وسط نقاش داخلي حول جدوى استمرار السياسة الحالية. فالتطورات الميدانية، والديناميات الإقليمية المتبدلة، فرضت وقائع جديدة تجعل من الصعب الإبقاء على النهج السابق كما ان بعض المؤشرات توحي بأن واشنطن قد تنفتح على مقاربة اقل براغماتية، استجابة لحاجة عملية إلى إعادة تموضع في ظل اشتداد المنافسة الدولية على النفوذ في سوريا.
تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم أمام مزيج من الأهداف المتعارضة: فهي تريد استثمار الانتصارات التي حققتها، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن دفع هذه الإنجازات نحو حسم شامل.
هذا التناقض يجعل استراتيجيتها عرضة للتقلبات والمفاجآت، ويمنح خصومها فرصة ذهبية لمباغتتها في اللحظات الحساسة. ومع استمرار عدم وضوح الرؤية، يبدو أن الأشهر المقبلة قد تشهد مزيدًا من القرارات المرتبكة، ومحاولات متكررة لإعادة صياغة قواعد اللعبة في المنطقة، من دون ضمانات حقيقية للنجاح.
اترك ردك