المفارقة أن جميع الذين يؤيدون القرار الحكومي أو أولئك الذين يعارضونه ويرفضونه جملة وتفصيلًا هم ممثلون في حكومة “الإنقاذ والإصلاح”. والمتعارف عليه من خلال المتابعات اليومية لقرارات الحكومات المتعاقبة أنها كانت تتخذ بالتوافق، وعندما يتعذّر ذلك كانت تلجأ إلى التصويت. وأي قرار يحظى بثلث الأصوات يصبح نافذًا. فإذا كان وزراء “الثنائي الشيعي” غير موافقين على قرار تكليف الجيش باعداد خطّة تنفيذية خلال ما يقارب الشهر لجمع سلاح “حزب الله” فكان يُفترض أن يحال هذا الاقتراح على التصويت. فإذا نال ثلثي الأصوات يصبح نافذًا، وليسجّل المعترضون أو المتحفّظون ذلك في محضر الجلسة. هذه هي الديمقراطية، توافقية كانت أم عادية كما هي الحال في كل دول العالم، التي تُحترم قراراتها وقوانينها ودستورها.
فلو أمعن “حزب الله” في بنود قرار الحكومة ولم يتسرّع في ردّة فعله عندما وصف هذا القرار بـ “الخطيئة الكبرى” لما كان لجأ إلى هذا الموقف التصعيدي، الذي جاء معبّرًا عن وجهة نظر غير لبنانية كشف جزءًا كبيرًا منها وزير خارجية إيران عباس عراقجي عندما تحدّث عن شأن لبناني لا علاقة لا لإيران ولا لغير إيران به.
فالقرار الحكومي لم يتحدّث عن بدء تجميع السلاح غير الشرعي قبل أن يضع نصب أعين الجميع “استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دوليًا وبسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجياً على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواها الذاتية”، واتخاذ كافـة الإجـراءات اللازمـة لتحرير جمیـع الأراضـي اللبنانية مـن الاحـتلال الإسرائيلي وبسـط سـیادة الدولـة علـى جمیع أراضيها ونشر الجیش في منطقة الحـدود اللبنانية المعتـرف بهـا دوليًا”. وكذلك تحدّث القرار عن “حق لبنان في الدفاع عن النفس في حال حصول أي اعتداء وذلك وفق ميثاق الأمم المتحدة”.
وهذان البندان، في رأي أكثر من مصدر وزاري، كانا كفيلين بعدم اقحام “حزب الله” وكذلك حركة “أمل”، وإن بنسب متفاوتة، في متاهة الردود غير المدروسة، والتي كانت تحتاج إلى الكثير من الدرس والتأني والحكمة والتروي. وكان يُفترض بقيادة “الحزب” أن تعي خطورة المرحلة، وأن تنأى بنفسها عن ردّها الناري، الذي لا يصب في خانة السلم الأهلي، بل هو نوع من التحريض والتأجيج والتذكير بسوابق لم تكن من بين الأيام البيضاء في تاريخ لبنان غير البعيد.
فما جاء في بيان “الحزب” من تعابير غير مدروسة كفاية كوصفه ما ورد في القرار الحكومي بأنه “مخالفة ميثاقية واضحة”، وبأنه ” يُحقق مصلحة إسرائيل بالكامل”، فيه نوع من الاتهام المباشر لجميع الوزراء الذين وافقوا على صياغة القرار بهذا الشكل بأنهم عملاء لإسرائيل.
إلاّ أن ما خلص إليه البيان لجهة الانفتاح “على الحوار، وإنهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان وتحرير أرضه والإفراج عن الأسرى، والعمل لبناء الدولة، وإعمار ما تهدَّم بفعل العدوان الغاشم، ومستعدون لمناقشة استراتيجية الأمن الوطني، ولكن ليس على وقع العدوان”، قد ترك باب الأخذ والردّ مفتوحا نصف فتحة. وهذا ما ورد ايضا في بيان حركة “أمل”، الذي دعا الحكومة إلى تصحيح ما وصفه بـ “الخطأ” والعودة إلى “التضامن اللبناني كما كان”.
ولكن ما شهدته جلسة الأمس له دلالات خطيرة سبق لوزراء “الثنائي” أن مارسوها في أكثر من حكومة عندما لم تكن القرارات المتخذة مناسبة لوضعية “حزب الله” الداخلية، ويوم كانت تتعارض مصالحه مع المصالح العليا للدولة.
في منطق الدول التي تحترم نفسها من غير الجائز أن يكون على أرض دولة واحدة مُعترف بها دوليًا ذات سيادة، حتى ولو كانت نسبية، جيش شرعي وقوى امر واقع تتناقض عقيدتهما القتالية من حيث جوهر وأهداف كل منهما، مع أن عدوهما الظاهر مشترك. وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان عاقلان، وهذا ما أشار إليه الموقف اللبناني النهائي عندما تحدّث عن أولوية تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي بقوة الموقف الديبلوماسي.
اترك ردك