يفرض هذا المشهد على “حزب الله” اختبارًا مزدوجًا: الحفاظ على إرث قائده الذي شكّل عمود المشروع المقاوم طوال عقود، والتعامل مع موازين قوى جديدة فرضتها التحولات الداخلية والإقليمية، خصوصًا بعد الحرب “الوحشية” الأخيرة، التي لم تنتهِ فصولها بعد. ومن هنا، جاءت الذكرى لتؤكد أنّ الحزب لم يعد قادرًا على التعامل مع الواقع بعفوية الرمز السابق، بل عليه أن يجترح أدوات جديدة تحمي موقعه وسط الضغوط المتصاعدة.
ولا شكّ في أنّ الاغتيال الذي هزّ لبنان والمنطقة قبل عام ترك فراغًا كبيرًا على مستوى القيادة والرمزية، وهو فراغ لا يزال يطبع مسار الحزب حتى اليوم، فالسيد حسن نصر الله لم يكن مجرد قائد سياسي أو عسكري، ولذلك يجد الحزب نفسه اليوم مع غيابه أمام معادلة دقيقة: هل يكتفي بتكرار الشعارات والثوابت نفسها التي آمن بها نصر الله وكرّسها في الممارسة والميدان، أم يسعى إلى إنتاج خطاب سياسي يتناسب مع المرحلة؟
تحوّلات مفصليّة خلال عام
ليس خافيًا على أحد أنّ “حزب الله” واجه على امتداد السنة الفائتة منذ اغتيال نصر الله تحدّيات مركّبة، أعادت رسم ملامحه إلى حدّ بعيد، فعلى المستوى الداخلي، كان واضحًا أنّ الكثير من الخطوط التي كانت مصنّفة حمراء لم تعد كذلك، كما أنّ الحزب لم يعد قادرًا على فرض “أجندته” كما كان يفعل سابقًا، بدليل تصدّر ملف حصر السلاح بيد الدولة النقاش السياسي، بعدما كان مجرّد طرحه يُعَدّ من المحظورات في فترات سابقة.
وفي هذا السياق، لم تمرّ الضغوط الحكومية الأخيرة لنزع سلاح الحزب من دون أثر، إذ كشفت عن تصدّع في العلاقة بين الحزب ومؤسسات الدولة، وأعادت الجدل حول حدود نفوذ الحزب في القرار الوطني. ومع أن الحزب ما زال يحتفظ بكتلته الأساسية، إلا أن غياب نصر الله أفقده القدرة على ضبط الإيقاع بنفس الصرامة التي اعتادها، علمًا أنّ هذه التباينات، وإن كانت محدودة، تزيد من عبء القيادة الجديدة.
خارجيًا، لم يتراجع الضغط الأميركي والغربي على الحزب، بل ازداد بعد اغتيال نصر الله، باعتبار أن أي ضعف في بنيته قد يشكل فرصة لتقليص نفوذه. في المقابل، برزت إشارات من القيادة الجديدة باتجاه الانفتاح، ولا سيما عبر رسائل قاسم الأخيرة حول إمكانية “فتح صفحة جديدة” مع بعض الدول العربية، في محاولة لإعادة تموضع الحزب ضمن معادلة إقليمية أكثر مرونة، ولو أنّها تبقى حتى الآن في إطار الكلام وليس أكثر.
خطاب قاسم: بين الرمزية والضغط
ميدانيًا، سعى “حزب الله” إلى استعادة زمام المبادرة بعد أشهر من الاستنزاف على الجبهة الجنوبية، وقد تجلّى ذلك بوضوح في خطاب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في ذكرى اغتيال السيد نصر الله، حيث تجاوز الخسائر والضغوط، ليقدّم صورة الحزب الذي “لن يترك الساحات”، ولن يسمح بإضعاف بنيته العسكرية، وبذلك يبدو أنّ الحزب يواصل إظهار نفسه كقوة صلبة في مواجهة أي محاولة لاحتوائه، من أيّ طرف أتت.
في كلمته في الذكرى، حاول الشيخ نعيم قاسم أن يختصر الموقف بشعار واحد: “إنّا على العهد”، ولا سيما أنّ هذا الشعار، الذي يردّده الحزب منذ اغتيال نصر الله، تحوّل إلى أداة مزدوجة: أولاً للتأكيد على استمرارية النهج المقاوم ورفض أي تنازل، وثانيًا لطمأنة القاعدة الشعبية بأن المشروع لم يهتزّ رغم خسارة قائده. لكن خلف هذا الشعار تكمن إشكالية أعمق، إذ إنّ قاسم بدا في موقع لا يُحسد عليه، بين الضغوط التي يواجهها، والمرونة التي يحاول إظهارها.
ولعلّ هذه الموازنة الدقيقة بين التصلّب والليونة تجعله عرضة لانتقادات متناقضة: فهو متشدّد بنظر خصومه، وضعيف بنظر بعض أنصاره الذين اعتادوا الكاريزما الحاسمة لزعيمهم الشهيد. إلا أنّ لغة التهديد لم تغب عن خطاب قاسم، من الحديث عن مواجهة وجودية إلى التحذير من غرق السفينة بالجميع إذا جرى المساس بسلاح الحزب، وهو ما يؤكد ما سبق أن قاله الرجل في خطابات سابقة، عن وجود مؤامرة وجودية ضدّ المقاومة.
صحيح أنّ ذكرى اغتيال السيد نصر الله شكّلت مناسبة لـ”حزب الله”، بمختلف فعالياتها ونشاطاته، لتأكيد عدم التخلّي عن الثوابت، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الحزب لا يواجه تحديًا وجوديًا على أكثر من مستوى، فقيادته الحالية تسعى إلى التمسك بالإرث الرمزي للسيد نصر الله، لكنها مضطرة للتعامل مع معطيات داخلية وخارجية مختلفة جذريًا، وهو ما يطرح السؤال الجوهري: هل تكفي الشعارات وحدها لضمان استمرار المشروع؟
اترك ردك