من خارج التوقعات، تحوّلت صخرة الروشة الشهيرة في قلب العاصمة بيروت إلى محور للسجال السياسي الداخلي، بعدما اختار “حزب الله” أن يحيي ذكرى اغتيال أمينيه العامين السابقين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين بإضاءة الصخرة بصورهما، في احتفال “رمزي”، يبدو أنّه استفزّ رئيس الحكومة نواف سلام، الذي سرعان ما خرج ليعلن أنّ ما حصل يشكّل مخالفة لمضمون الترخيص المعطى للمنظّمين.
الفعالية التي أرادها حزب الله جزءًا من إحياء الذكرى، سرعان ما أخذت بُعدًا مختلفًا، حتى إنّها فتحت باب مواجهة سياسية جديدة في بلد يعيش على وقع أزمات متتالية. فبدل أن ينصبّ الاهتمام على الرسائل السياسية والمعنوية المرتبطة بالذكرى، انشغل الرأي العام بخلاف حول مكان الإضاءة ودلالاتها، وسط انقسام بين من رأى في الخطوة تحديًا واضحًا للدولة، وبين من اعتبرها شأنًا رمزيًا لا يستدعي هذا المستوى من الاستنفار.
وما بين الفعالية وما تلاها من ردود فعل، ارتسم مشهد لبناني مألوف: جدل داخلي حاد حول تفاصيل شكلية، يطغى على القضايا الكبرى التي تمسّ حاضر البلد ومستقبله، من الصراع المفتوح مع إسرائيل إلى التحديات الاقتصادية الخانقة. فهل كان الأمر يستحقّ فعلاً كلّ هذه الضجة، وهل يصحّ القول إنّ هيبة الدولة قد كُسِرت بسبب تنظيم “حزب الله” هذه الفعالية، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير؟!
بين “حزب الله” والدولة
بالنسبة إلى “حزب الله”، فإنّ ما جرى يعكس إصرار خصومه على التصويب على أي نشاط يقوم به، حتى وإن كان ذا طابع رمزي. ويرى الحزب أنّ إحياء الذكرى من خلال إضاءة صخرة الروشة لا يستحق كل هذا الضجيج، لكنّ الموقف الرسمي الذي اعتبره تحديًا للدولة جاء بمثابة رسالة واضحة بأنّ هناك من يريد القول للحزب إنّ حركته باتت مقيدة في الفضاء العام، حتى في أبسط الخطوات، وهو ما يعمّق شعور بيئة الحزب بأنّ هناك من يستضعفها بالمُطلَق.
في المقابل، يذهب رأي آخر إلى أنّ الحزب هو الذي اختار تحدي الدولة بشكل غير مباشر. فالمخالفات التي أشار إليها رئيس الحكومة دليل على أنّ الحزب أراد فرض أمر واقع، وأنّ اختياره لصخرة الروشة لم يكن مجرد رسالة رمزية في قلب العاصمة. ولو أراد الحزب الالتزام الكامل بما تم الاتفاق عليه، لكان بإمكانه الاكتفاء بفعالية شعبية في محيط الضريح أو عند موقع الانفجار، خصوصًا أنّ الإعلان عن النشاط قوبل باعتراض بعض الشرائح منذ أيام.
وهكذا، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام روايتين متناقضتين: حزب يؤكد أنّه يُستهدف في كل ما يقوم به، وكأنّ هناك من يريد أن يقول له إنّ ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه ليس كما قبلها، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، ولكن حتى في المعادلات الداخلية البسيطة، وسلطة تعتبر في المقابل، أنّ ما حصل انتهاك للقانون واستفزاز لهيبة الدولة، وهو ما لا يجوز التساهل معه. وبين الروايتين، يتكرّس الانقسام السياسي كقاعدة ثابتة لأي حدث مهما كان طابعه رمزيًا.
جدل على “القشور”؟!
أبعد من السجال القانوني والسياسي، تطرح مشهديّة صخرة الروشة مسألة الأولويات اللبنانية. فبينما يستنفر المسؤولون رفضًا لإضاءة الصخرة، تمرّ الخروقات الإسرائيلية اليومية للبنان بصمت شبه تام، ولا يحظى كلام المبعوث الأميركي توم براك حول مستقبل الحدود البحرية والبرية بذات المستوى من الاستنفار السياسي والإعلامي، وهي مفارقة يرى كثيرون أنّها تعكس خللًا عميقًا في ترتيب جدول الأعمال الوطني.
في نظر كثيرين، النقاش حول صورة على صخرة لا يقارن بما يعيشه لبنان من تهديدات فعلية. لكن ثمّة من يتفهّم ذلك، باعتبار أنّ الانقسام حول “حزب الله”، والاستحقاقات المرتبطة به في هذه المرحلة، وفي مقدّمها “سحب السلاح” المطلوب دوليًا، يجعل أي خطوة صادرة عنه محطّ جدل وانقسام، ولا سيما أنّ هناك من يعتبر أنّ إصرار الحزب على تنظيم النشاط يعكس محاولة منه للقفز فوق المتغيّرات التي طرأت على واقعه بعد الحرب الأخيرة.
قد تكون النتيجة الثابتة، وسط كلّ ذلك، أن اللبنانيين يستهلكون وقتهم في سجالات رمزية، بينما الأزمات الوجودية تبقى بلا معالجة. لكن العارفين يشدّدون على أنّ هذا الميل إلى الانشغال بالقشور على حساب الأساس لم يعد تفصيلًا عابرًا، بل سمة ملازمة للمشهد اللبناني. ومع كل محطة جديدة، يتأكد أنّ النقاش حول “حزب الله” وممارساته يبتلع النقاش حول السيادة والأمن والاقتصاد، لتبقى البلاد عالقة في دوامة سجالات عقيمة، بانتظار نضوج الظروف على الأقلّ.
من زاوية سياسية بحتة، يصعب القول إنّ إضاءة صخرة الروشة كانت تستحق كل هذا الاستنفار. لكنّها، في عمقها، أعادت إظهار حقيقة الانقسام اللبناني: أي خطوة مرتبطة بحزب الله تتحول سريعًا إلى ساحة مواجهة، حتى ولو كانت رمزية. وهكذا، يواصل اللبنانيون دورانهم في حلقة مفرغة من الصراع على الرموز، فيما الأسئلة الكبرى المعلّقة، من الحدود إلى الاقتصاد، تنتظر من يجرؤ على مقاربتها بجدّية.
الفعالية التي أرادها حزب الله جزءًا من إحياء الذكرى، سرعان ما أخذت بُعدًا مختلفًا، حتى إنّها فتحت باب مواجهة سياسية جديدة في بلد يعيش على وقع أزمات متتالية. فبدل أن ينصبّ الاهتمام على الرسائل السياسية والمعنوية المرتبطة بالذكرى، انشغل الرأي العام بخلاف حول مكان الإضاءة ودلالاتها، وسط انقسام بين من رأى في الخطوة تحديًا واضحًا للدولة، وبين من اعتبرها شأنًا رمزيًا لا يستدعي هذا المستوى من الاستنفار.
وما بين الفعالية وما تلاها من ردود فعل، ارتسم مشهد لبناني مألوف: جدل داخلي حاد حول تفاصيل شكلية، يطغى على القضايا الكبرى التي تمسّ حاضر البلد ومستقبله، من الصراع المفتوح مع إسرائيل إلى التحديات الاقتصادية الخانقة. فهل كان الأمر يستحقّ فعلاً كلّ هذه الضجة، وهل يصحّ القول إنّ هيبة الدولة قد كُسِرت بسبب تنظيم “حزب الله” هذه الفعالية، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير؟!
بين “حزب الله” والدولة
بالنسبة إلى “حزب الله”، فإنّ ما جرى يعكس إصرار خصومه على التصويب على أي نشاط يقوم به، حتى وإن كان ذا طابع رمزي. ويرى الحزب أنّ إحياء الذكرى من خلال إضاءة صخرة الروشة لا يستحق كل هذا الضجيج، لكنّ الموقف الرسمي الذي اعتبره تحديًا للدولة جاء بمثابة رسالة واضحة بأنّ هناك من يريد القول للحزب إنّ حركته باتت مقيدة في الفضاء العام، حتى في أبسط الخطوات، وهو ما يعمّق شعور بيئة الحزب بأنّ هناك من يستضعفها بالمُطلَق.
في المقابل، يذهب رأي آخر إلى أنّ الحزب هو الذي اختار تحدي الدولة بشكل غير مباشر. فالمخالفات التي أشار إليها رئيس الحكومة دليل على أنّ الحزب أراد فرض أمر واقع، وأنّ اختياره لصخرة الروشة لم يكن مجرد رسالة رمزية في قلب العاصمة. ولو أراد الحزب الالتزام الكامل بما تم الاتفاق عليه، لكان بإمكانه الاكتفاء بفعالية شعبية في محيط الضريح أو عند موقع الانفجار، خصوصًا أنّ الإعلان عن النشاط قوبل باعتراض بعض الشرائح منذ أيام.
وهكذا، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام روايتين متناقضتين: حزب يؤكد أنّه يُستهدف في كل ما يقوم به، وكأنّ هناك من يريد أن يقول له إنّ ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه ليس كما قبلها، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، ولكن حتى في المعادلات الداخلية البسيطة، وسلطة تعتبر في المقابل، أنّ ما حصل انتهاك للقانون واستفزاز لهيبة الدولة، وهو ما لا يجوز التساهل معه. وبين الروايتين، يتكرّس الانقسام السياسي كقاعدة ثابتة لأي حدث مهما كان طابعه رمزيًا.
جدل على “القشور”؟!
أبعد من السجال القانوني والسياسي، تطرح مشهديّة صخرة الروشة مسألة الأولويات اللبنانية. فبينما يستنفر المسؤولون رفضًا لإضاءة الصخرة، تمرّ الخروقات الإسرائيلية اليومية للبنان بصمت شبه تام، ولا يحظى كلام المبعوث الأميركي توم براك حول مستقبل الحدود البحرية والبرية بذات المستوى من الاستنفار السياسي والإعلامي، وهي مفارقة يرى كثيرون أنّها تعكس خللًا عميقًا في ترتيب جدول الأعمال الوطني.
في نظر كثيرين، النقاش حول صورة على صخرة لا يقارن بما يعيشه لبنان من تهديدات فعلية. لكن ثمّة من يتفهّم ذلك، باعتبار أنّ الانقسام حول “حزب الله”، والاستحقاقات المرتبطة به في هذه المرحلة، وفي مقدّمها “سحب السلاح” المطلوب دوليًا، يجعل أي خطوة صادرة عنه محطّ جدل وانقسام، ولا سيما أنّ هناك من يعتبر أنّ إصرار الحزب على تنظيم النشاط يعكس محاولة منه للقفز فوق المتغيّرات التي طرأت على واقعه بعد الحرب الأخيرة.
قد تكون النتيجة الثابتة، وسط كلّ ذلك، أن اللبنانيين يستهلكون وقتهم في سجالات رمزية، بينما الأزمات الوجودية تبقى بلا معالجة. لكن العارفين يشدّدون على أنّ هذا الميل إلى الانشغال بالقشور على حساب الأساس لم يعد تفصيلًا عابرًا، بل سمة ملازمة للمشهد اللبناني. ومع كل محطة جديدة، يتأكد أنّ النقاش حول “حزب الله” وممارساته يبتلع النقاش حول السيادة والأمن والاقتصاد، لتبقى البلاد عالقة في دوامة سجالات عقيمة، بانتظار نضوج الظروف على الأقلّ.
من زاوية سياسية بحتة، يصعب القول إنّ إضاءة صخرة الروشة كانت تستحق كل هذا الاستنفار. لكنّها، في عمقها، أعادت إظهار حقيقة الانقسام اللبناني: أي خطوة مرتبطة بحزب الله تتحول سريعًا إلى ساحة مواجهة، حتى ولو كانت رمزية. وهكذا، يواصل اللبنانيون دورانهم في حلقة مفرغة من الصراع على الرموز، فيما الأسئلة الكبرى المعلّقة، من الحدود إلى الاقتصاد، تنتظر من يجرؤ على مقاربتها بجدّية.
اترك ردك