المجاعة لا تنتهي بالغذاء.. بل يترك ندوبًا في الجينات تمتد لأجيال

في ظل المجاعة الكارثية التي يعيشها قطاع غزة حاليًا، والتي وصفتها منظمات الإغاثة بأنها “الأسوأ في العالم”، تتجاوز المأساة حدود الجوع اللحظي، لتطرح أسئلة أكبر: ما تأثير المجاعة على من ينجو منها؟ وهل تنتهي آثارها بمجرد أن نشبع؟

الجواب، وفق العلم الحديث، هو لا.
المجاعة لا تترك فقط أجسادًا منهكة، بل تترك ندوبًا بيولوجية عميقة تنتقل من جيل إلى آخر.

هذا ما كشفته دراسات رائدة، أبرزها دراسة حول ما سُمّي بـ”شتاء الجوع الهولندي” خلال الحرب العالمية الثانية. فقد تبيّن أن الأطفال الذين كانوا في بطون أمهاتهم خلال المجاعة، عانوا لاحقًا من أمراض القلب، والسكري، والاضطرابات النفسية، حتى وإن نشأوا في بيئة غذائية سليمة.

يدخل هنا مفهوم “ذاكرة الجينات”، أو ما يُعرف علميًا بـ “الوراثة فوق الجينية”. الفكرة بسيطة لكنها مذهلة: عندما يتعرض الجسم لظروف قاسية كالمجاعة، تحصل تغييرات دقيقة في طريقة عمل الجينات، من دون أن يتغير تسلسل الحمض النووي نفسه. هذه التغيرات يمكن أن تنتقل للأبناء.

من أبرز هذه التغيرات ما يُعرف بـ “مثيلة الحمض النووي”، وهي عملية كيميائية تؤدي إلى إيقاف أو تنشيط بعض الجينات استجابة للضغوط البيئية. فعندما يعاني الجسم من الجوع الشديد، قد تتغير آليات التمثيل الغذائي لديه ليُخزّن الطاقة بشكل أفضل، أو تُصبح استجابته للضغط النفسي أكثر حساسية، وكل ذلك ينتقل عبر الجينات إلى الأبناء وربما الأحفاد.

والتجارب على الحيوانات تدعم هذا التوجه. ففي دراسة نُشرت عام 2017، قام باحثون في جامعة سانت ماري بتجويع الفئران ثلاث مرات خلال حياتها. النتائج أظهرت أن تلك الفئران، لاحقًا، أصبحت أكثر قدرة على خفض حرارة أجسامها وتقليل استهلاك الطاقة، وكأن أجسامها باتت مبرمجة لمواجهة المجاعة القادمة. الأهم، أن هذه التغيرات انتقلت أيضًا إلى ذريتها.

بل إن الجوع، خاصةً في مراحل الحمل أو الطفولة المبكرة، قد يؤثر على نمو الدماغ نفسه. وهذا قد يفسر مشكلات سلوكية وذهنية نلاحظها لاحقًا في أطفال لم يعيشوا المجاعة مباشرة، لكن آباءهم أو أمهاتهم مرّوا بها.

إذا، فالمجاعة ليست حدثًا ينتهي بانتهاء الجوع. إنها تجربة تُعيد تشكيل الجينات، وتُحمِّل الأجساد ذاكرة ألم، قد تبقى محفورة في الحمض النووي لأجيال قادمة.

هذا يجعل من قضية المجاعة في غزة اليوم ليست فقط مأساة إنسانية آنية، بل مأساة بيولوجية عابرة للزمن، يجب أن تُعالج بجدية وسرعة، لأن ثمن إهمالها لن يُدفع فقط الآن، بل سيدفعه من لم يولدوا بعد.