السلطات أمام تحدّ مزدوج
لاطالما شكّل موضوع المقالع والكسارات محطة شائكة في لبنان، الذي لم تستطع جهاته الرسمية فرض هيبتها على كامل أراضيه في محاولة للسيطرة على كل التعديات البيئية التي تحصل.
واليوم، بعد الحرب التي دمّرت العديد من القرى، يواجه لبنان تحديًا مزدوجًا يتمثل في الحاجة الملحة لإعادة الإعمار وسط كومات الدمار جراء الأزمات المتتالية، والتداعيات الخطيرة لقطاع المقالع والكسارات الذي لطالما عانى من الفوضى وغياب الرقابة. بينما يشكل هذا القطاع شريانًا حيويًا لتأمين المواد الأولية للبناء، إلا أن تمدده العشوائي وتداخل النفوذ السياسي فيه حوّله إلى معضلة بيئية واقتصادية تزيد من تعقيدات مسيرة التعافي.
لكن مسيرة إعادة الإعمار تصطدم بعقبات جسيمة وتتداخل بشكل وثيق مع قطاع المقالع والكسارات، الذي يُفترض أن يوفر المواد الأساسية لإعادة البناء. إلا أن هذا القطاع، ورغم أهميته الاقتصادية، يواجه اتهامات واسعة بالتسبب بدمار بيئي لا يمكن إزالته. فالمقالع تزيل التربة السطحية، وتدمر الغطاء النباتي، وتغير الأنظمة البيئية، وتسبب تلوثًا هوائيًا كبيرًا، وتقلل من القيمة الجمالية للمناظر الطبيعية.
الأخطر من ذلك هو انتشار المقالع والكسارات غير المرخص لها ، حيث يقدر أن عددها بالآلاف، معظمها يعمل بدون ترخيص قانوني. هذه الفوضى تؤدي إلى خسائر مالية فادحة للدولة تقدر بمليارات الدولارات نتيجة عدم تحصيل الرسوم والغرامات. ورغم صدور مراسيم تنظيمية وقوانين واضحة منذ سنوات، إلا أن التنفيذ ظل غائبًا، مما أدى إلى استمرار المخالفات والتواطؤ الرسمي.
خطر كبير على البيئة
ووفق مصادر مطلعة، يسمح بنقل الردم إلى أكثر من 600 موقعاً للمقالع والمرامل في لبنان على مساحة إجمالية تزيد عن 50 مليون متر مربع، يتمركز أكبر عدد من هذه المواقع في محافظة بعلبك الهرمل ثم جبل لبنان والبقاع.
وبحسب ما لفتت إليه المصادر، يشكّل هذا الأمر خطراً كبيراً على البيئة، إذ يسمح بإزالة ملايين الأمتار المكعبة من ركام الأبنية المختلطة بمواد كيميائيّة ناتجة عن الصواريخ والمعادن الثقيلة والحديد والألمنيوم والزجاج والخشب والمفروشات والمواد البلاستيكيّة والبطاريات ونشرها في المقالع الموجودة على كل الأراضي اللبنانيّة.
كما أنه وفق تعميم أصدرته وزارة البيئة، يتعين نقل الردم إلى مواقع المقالع الواقعة على الأملاك العامة الأقرب جغرافياً. وإذا تعذّر ذلك، ينقل الردم إلى مواقع مشابهة على أملاك خاص، وفي حال لم يتم اللجوء إلى هذين الخيارين لأسباب معينة، يُسمح بنقل الردم إلى أي عقار قريب مملوك للدولة ما قد يسبّب فوضى في التعامل مع الأملاك العامة.
وفي هذا السياق، وبهدف تنظيم الرسوم المقررة على هذه الأنشطة لتأمين إيرادات مالية، صدر عن وزارة المالية قرار حدّد بموجبه الرسم السنوي على استثمار الأراضي التي تستخدم للمقالع والكسارات، وهي رسوم تعتبر متدنية جداً. ولكن من حيث إعادة الإعمار، يشرّع هذا الأمر الأبواب أمام استنزاف الموارد الطبيعية، وتصبّ في مصلحة أصحاب شركات الإسمنت واحتكارهم للقطاع.
دعوات للمحاسبة
تثير القضايا القانونية المتعلقة بالقطاع جدلًا واسعًا، حيث دعت منظمات بيئية إلى تنفيذ قرارات قضائية بوقف استثمار المقالع غير القانونية، وشددت على ضرورة محاسبة المخالفين وتحصيل التعويضات عن الأضرار البيئية.
من هنا، يتعين على الحكومة اللبنانية أن تفرض سيادة القانون وتطبق التشريعات بحزم على جميع المخالفين، مع تطوير آليات رقابية فعالة تستخدم التكنولوجيا الحديثة، مثل الصور الجوية، لرصد المقالع وتتبع توسعاتها وآثارها البيئية. كما يتوجب عليها تحصيل المستحقات المالية للدولة من هذا القطاع، وإعادة تأهيل المواقع المتضررة بيئيًا.
وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون خطة إعادة الإعمار واضحة وشفافة، تركز على الأولويات الأساسية كضمان الأمن، ودعم المتضررين، وإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية لجذب الاستثمارات الدولية.
الآن هو الوقت الأنسب للبنان كي يسير على طريق الإصلاح والتعافي، لو أراد مسؤولوه ذلك فعلاً. فهل من يخطو الخطوة الأولى نحو القرارات الجريئة لتحويل التحديات إلى فرص؟
اترك ردك