هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل يعكس ارتفاع حرارة الاشتباك السياسي والإقليمي على الساحة اللبنانية، وتزايد الرغبة لدى الأطراف الفاعلة في إيصال رسائلها بشكل مباشر إلى الداخل والخارج على حد سواء. ومن أبرز الأمثلة ما جاء في تصريحات رئيس”حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع، الذي دعا الدول العربية إلى التدخل لمنع إيران من التأثير في الشؤون اللبنانية. هذه الرسالة، وإن جاءت على لسان جعجع، إلا أنها بدت وكأنها تحمل مضمونًا سعوديًا واضحًا موجّهًا إلى طهران، محذّرة من استمرار تمدد نفوذها في لبنان.
الرد من الطرف الآخر لم يتأخر، فجاء عبر تصعيد في الخطاب السياسي ل”حزب الله”، وهذا يُقرأ على أنه رسالة إيرانية معاكسة، تؤكد أن الساحة الإقليمية ليست سائبة كما قد يظن البعض، وأن التوازنات الاستراتيجية لم تتبدل جذريًا، وأن إيران ما زالت تملك أوراق ضغط سياسية وأمنية وإعلامية تستطيع تحريكها في أي لحظة تراها مناسبة.
لكن هناك مقاربة شائعة في بعض الأوساط، ترى أن “حزب الله” قد هُزم أو تراجع بشكل حاسم في الداخل اللبناني. هذه القراءة، في الواقع، تبسيط مفرط للمشهد، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا بُنيت عليها حسابات سياسية أو ميدانية.
صحيح أن المحور الأميركي – السعودي تمكن في الفترة الأخيرة من تحقيق تقدم في بعض الملفات اللبنانية، إلا أن هذا التقدم يشبه في مضمونه ومستواه ما حققه المحور الإيراني قبل الحرب الأخيرة، عندما شعر أنه يمسك بمفاصل اللعبة، قبل أن تتبدل الظروف ويعود ميزان القوى إلى نقطة أكثر توازنًا.
لبنان، بطبيعته السياسية والطائفية، ليس ساحة يمكن ان يطبّق عليها الأسلوب نفسه الذي استُخدم في سوريا أو دول أخرى. التعقيد البنيوي في تركيبته يجعل أي محاولة لحسم الأمور بسرعة محفوفة بالمخاطر، وقد يفتح الباب أمام انفجار سياسي واسع، وربما يعيد “حزب الله” إلى موقع أكثر قوة، حتى لو كان احتمال المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل ضعيفًا في الوقت الراهن.
ف”الحزب” يملك خيارات أخرى للضغط، منها تحريك الشارع، أو التأثير في مسار الملفات الحكومية، أو إعادة رسم قواعد اللعبة من جديد.
بناءً على ذلك، يبدو أن لبنان مقبل على مرحلة جديدة من الصراع السياسي المفتوح، حيث الرسائل والردود تُطلق علنًا، وحيث الداخل يتأثر بشكل مباشر بالتحولات الإقليمية. ومن يعتقد أن بإمكانه حسم الساحة اللبنانية لصالحه بالكامل، قد يكتشف سريعًا أن هذا البلد، بتعقيداته وتشابكاته، عصيّ على الإخضاع الكامل، وأن موازين القوى، مهما اختلت، تميل دائمًا إلى إعادة إنتاج نفسها في اللحظة التي يظن فيها أحد الأطراف أنه حقق الانتصار النهائي.
اترك ردك