هجرة معاكسة في قلب المشهد التربوي
ما يشهده قطاع التعليم اليوم هو أشبه بـ”نزيف صامت” في الجسم التربوي الرسمي. فالمعلم اللبناني الذي لطالما شكّل ركيزة أساسية في أنظمة التعليم العربية، من الخليج إلى شمال أفريقيا، يجد نفسه اليوم أمام خيار واضح: إما البقاء في مهنة لم تعد تضمن الحد الأدنى من الكرامة المعيشية، أو الرحيل نحو مؤسسات تعليمية خارجية تعترف بكفاءته وتؤمّن له حياة لائقة. الطلب على المعلمين اللبنانيين ارتفع بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، مع بدء دول الخليج، إعادة زخم العلاقات مع لبنان. وهذا الطلب يترافق مع عروض مادية تفوق بأضعاف ما يتقاضاه المعلم الرسمي في لبنان، الذي يعيش اليوم تحت خط الفقر، حيث لم تعد رواتبه تتجاوز حفنة دولارات تآكلت بفعل الانهيار النقدي والجمود الإصلاحي. تشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من 2500 معلّم رسمي غادروا لبنان بين 2020 و2024 للعمل في الخارج، في موجة تُعدّ الأكبر منذ الحرب الأهلية. ومع بداية كل عام دراسي، تصبح عملية تأمين الكادر التربوي الكامل أقرب إلى التحدي اللوجستي، خصوصًا في المواد العلمية واللغات الأجنبية، ما يهدد جودة التعليم واستمراريته.
ليست أزمة التعليم في لبنان أزمة معلمين فحسب، بل أزمة هيكلية متراكمة. فبحسب تقديرات المنظمات الأممية، أكثر من 40% من المدارس الرسمية تحتاج إلى ترميمات عاجلة لضمان الحد الأدنى من بيئة تعليمية صالحة. في المقابل، تعجز العديد من المؤسسات عن توفير كتب مدرسية حديثة، ما يدفع المعلمين لاستخدام مواد قديمة، وهو ما يشكّل ضربة قاسية لمستوى التعليم وجودته.
تراجع الاستثمار في البنية التحتية للمدارس الرسمية يترافق مع ضمور في الإنفاق العام على التعليم. فرغم الدعم الذي قدّمه الصندوق الائتماني للتعليم في لبنان (TREF) خلال السنوات الماضية، إلا أن غياب السياسات الحكومية المستقرة، وافتقار الوزارات المعنية للقدرة التخطيطية والتنفيذية، أبقى القطاع في دائرة الخطر.
وبحسب البنك الدولي، فإن نحو 70% من التلاميذ في لبنان يعانون من “فقر تعليمي”، أي أنهم لا يستطيعون قراءة وفهم نص مناسب لعمرهم بحلول سن العاشرة. هذه النسبة تضع لبنان في موقع متدنٍّ مقارنة مع دول عربية أخرى كانت في الماضي تستفيد من الخبرة اللبنانية لبناء أنظمتها التعليمية.
الإقليم يتحرك… ولبنان يتراجع
وفي حين تواجه بعض الدول العربية تحديات في قطاعها التعليمي، إلا أن ما يمرّ به لبنان يتجاوز كونه أزمة موارد. ففي الأردن وتونس ومصر، ورغم الصعوبات المالية، لا يزال التعليم الرسمي يحظى بدور واضح في السياسات العامة، مع اعتراف بدور المعلم كشريك في بناء الأمة. أما في لبنان، فالمعلم يُترك ليواجه وحده أعباء معيشية ساحقة في غياب أي مظلة حمائية، وهو ما حوّله تدريجًا إلى “عنصر تصدير” للأنظمة التعليمية العربية، لا مكوّنًا بنيويًا في نهضة بلاده.
إعادة فتح خطوط التوظيف أمام المعلمين اللبنانيين في الخليج ليست مجرد ظاهرة عرضية، بل تعبير عن تحوّل في وظيفة التعليم الرسمي نفسه. فمن وظيفة وطنية لإنتاج رأس المال البشري المحلي، باتت المدرسة الرسمية في لبنان مسرحًا لنزف الكفاءات نحو الخارج، بلا أي استراتيجية لتعويضها أو الحفاظ عليها.
في هذا السياق،يؤكّد مصدر تربوي لـ”لبنان24″ أنّ ما يحصل في قطاع التعليم ليس معزولًا عن البنية السياسية العامة في لبنان. فالانهيار التربوي هو أحد وجوه انهيار الدولة، حيث يغيب التخطيط، وتُستنزف المؤسسات لصالح الزبائنية والمحاصصة. لا يمكن فصل أزمة التعليم عن أزمة المالية العامة التي تستنزف إمكانات الوزارات، ولا عن أزمة الثقة التي تمنع أي إصلاح فعلي. ولذا، فإن الحديث عن “إنقاذ التعليم” لا يمكن أن يتمّ من دون إعادة تعريف دور الدولة كضامنة للحق في المعرفة، لا كمجرد مشرف هشّ على إدارة متداعية.
نحو عام دراسي بلا معلمين؟
ويضيف المصدر في هذا السياق :”المؤشرات الميدانية مقلقة: عدد من المدارس الرسمية لم يعد قادراً على تأمين الكادر التدريسي الكامل. وهناك خشية جدّية من أن يبدأ العام الدراسي المقبل بنقص حاد في المعلمين، لا سيما في المواد الأساسية، ما يهدد قدرة آلاف التلاميذ على تلقي التعليم الجيد أو حتى الانتظام في الصفوف، ويكرّس الفجوة الطبقية التعليمية بين أبناء التعليم الرسمي والخاص”.
وقال:” لم يعد ممكنًا تأجيل الحلول. المطلوب، وبصورة عاجلة، أن تضع الحكومة اللبنانية التعليم الرسمي على رأس أولوياتها، لا كملف خدماتي، بل كقضية سيادية ووطنية. يجب تخصيص ميزانية عادلة وفعالة لضمان وصول كل طفل، وبخاصة الأكثر هشاشة، إلى تعليم آمن وعالي الجودة. المعلم هو قلب العملية التربوية، وهجرته الجماعية تنذر بانهيار ما تبقّى من هذا القلب. وإذا ما استمرّ التعامل مع قطاع التعليم بمنطق الإنكار والتقشف والمراوغة، فإن لبنان، الذي كان يومًا منارة تربوية في الشرق، سيجد نفسه غارقًا في ظلام أمّيّة مقنّعة وفقرٍ تعليمي لا شفاء منه”.
اترك ردك